المجتمع المدني مقاربة نقدية
بقلم: د محمد الغيلاني
كاتب وباحث من المغرب متخصص في سوسيولوجيا المجتمع المدني
تنطوي استعمالات مفهوم المجتمع المدني على كم هائل من الاختلاطات والالتباسات، وإن كل مقاربة ترتدي لبوس الإيديولوجيا إنما تندرج في حكم المقاربات التي تتماهى مع عموم الخطاب النفعي، الذي يشتغل بالمفهوم لأجل أغراض ابتزازية، أي على خلفية ممارسة الاحتكار أو الهيمنة أو الدجل. ولعل استعمال مقولة المجتمع المدني لأجل أغراض من هذا القبيل إنما يعبد سبل رسوخ الاختلالات القائمة أصلا، ويتلف بالتالي كل الدلائل التي قد تقود إلى فهم اشمل وأعمق لدلالاته، فتنسد الآفاق التي يفترض أن تنفتح أمام كل جهد معرفي، لا يركن إلا إلى معطيات ونتائج البحث النظري الصارم المستند إلى فحص دقيق للإرث الفلسفي والسوسيولوجي. فالبحث المعرفي بهذا المدلول هو ضد الإتلاف، ومن تم فإن التتبع التأريخي والرصد المنهجي والإبستمولوجي لمفهوم المجتمع المدني، إنما هو محاولة معرفية للتصدي لهذا الإتلاف وتفكيك لتلك الاختلاطات، وفرز للحيثيات التي أحاطت أو واكبت تاريخ وتجربة المفهوم نظريا وسوسيولوجيا.
تعاني المفاهيم بصفة عامة من مشكلة انحصارها وانغلاقها وبالتالي فشلها في اختراق المنظومات الفكرية بالقدر نفسه فشلها في اختراق قاموس خطاباتها، في حين أن مشكلة مفهوم المجتمع المدني هي انسيابيته وميوعته وانتشاره في كل الاتجاهات، لينحت لذاته وجودا ما تارة، أو ليُفرض عنوة تارة أخرى، بحيث أصبح اصطلاحا متداولا في الجدل الذي تخوض فيه النخب التي تنتمي إلى مجالات وقطاعات مختلفة : في المعرفة، والسياسة والاقتصاد …فضلا عن ذلك نجد أن المفهوم يعد من المفردات المرحب بها في القاموس التداولي للتيارات المتدينة. لا وجود لرجل دولة أو دين إلا واستخدم أو استغل هذا المفهوم، بل إن فئات وهيئات عريضة من قطاعات المجتمع تتبارى في السعي للحصول على صفة العضوية في تنظيمات المجتمع المدني، لأن هذه الصفة تعد مصدرا من مصادر الشرعية : شرعية وجودية، شرعية حداثية.
المجتمع المدني بهذا المعنى ليس مجرد قيمة سياسية، إنه إفصاح عن قيمة وجودية. ولأن هذه القيمة ذات طابع فلسفي- كوني، وليس مجرد قيمة سوسيوسياسية، فإن كثيرا من الاستعمالات والتوظيفات التي كان المفهوم عرضة لها سيء َنظْمُها لأنها انطلقت من فرضيات مرتبكة للتدليل على مفهوم هو بالأساس مقولة افتراضية. فكيف يستقيم أن ننطلق من فرضية لإثبات أخرى. والحال أننا نتعاطى مع المجتمع المدني تارة بحسبانه مفهوما أو مقولة نظرية، وتارة بحسبانه واقعة سوسيولوجية، وما لم نحسم هذا الالتباس فإن كل محاولة للفهم ستبقى معطلة إلى حين.
سوسيولوجيا، ليس المجتمع المدني حقيقة ناجزة نتأكد تلقائيا من وجودها دون تحديد واضح للمقدمات. بل هي فرضية ملآى بالمفارقات، ومرصد لتاريخ حافل بتجاذب الأفكار وتدافع التجارب. لا تكمن أهمية المفهوم ووظيفته في بذل الجهد لإثبات وجوده من عدمه، وإنما تتجلى أهميته في التعاطي معه بحسبانه أداة تحليل وتفسير لمجمل التحولات والوقائع الاجتماعية التي تعتمل في النسيج المجتمعي.كيف جرى استخدام المجتمع المدني في محاولة إعادة مقاربة علاقة المجتمع بالدولة؟
حيازة الدولة للسيادة إدعاء سياسي بالنظر إليه كمظهر من مظاهر السيطرة. إذ باسم السيادة تتمنع الدولة عن التدخل في شؤون دولة أخرى، لأن السيادة تعني حق ممارسة دولة ما لسلطتها داخل حدودها الجغرافية. فالسيادة في وجه من وجوهها تحمي الدولة من التدخل الأجنبي، لكن من دون أن تمنعها من ممارسة سلطتها على المجتمع.
ظهر نظام الدولة الحديثة في القرن السابع عشر وتم الاعتراف به كتجسيد للمرجعية السياسية. فالدولة من هذا المنظور ظاهرة تاريخية في حين أن السيادة وليدة عامل خارجي، أي أنها وليدة الاتفاقيات الدولية التي تلزم الدولة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى. اقترنت السيادة، وبالتالي السيطرة على المجتمع، بمبدإ من خارج الدولة ذاتها. فالدولة كيان له سيادة، ولقد ورثت دولة القرن التاسع عشر والقرن العشرين هذا الادعاء حتى بات تعريف الدولة مقترنا بمفهوم السيادة. بل إن الديموقراطية ذاتها لم تفلح في أن تغير شيئا من هذه الحقيقة، إذ هي لم تؤثر على الخصائص الجوهرية للدولة . فالديموقراطية تستدعي الاعتراف المتبادل بين شرائح المجتمع، وهي مطالبة بالتسامح مع الآخر – المختلف . في حين أن التوجهات الاجتماعية المنقسمة، لا تقبل بمنطق الأقلية والأغلبية. فالدولة المعاصرة تعكس ثلاث أنماط: